الأربعاء، 23 فبراير 2011

لمادة الثانية من الدستور المصرى الدائم (دستور 1971 ) والعلاقة الملتبسة بين الدين والدولة

।المادة الثانية من الدستور المصرى الدائم (دستور 1971) والعلاقة الملتبسة بين الدين والدولة

بقلم: خليل كلفت

1

يخلو دستور 1882 المصرى من ذكر "الإسلام"، وقد أورده دستور 1923 إذْ نصت المادة 149 على أن "الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية"، وتكرر هذا النص ذاته فى دستور 1954 (المادة 195)، وأضاف الدستور الدائم (1971) إلى نفس النص ما جعله: "الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع" (المادة 2)، وتكرر النص الجديد كما هو عند تعديل الدستور فى 2007 (المادة 2)؛ [ولا حظوا هذا الاضطراب فى الصياغة الذى يحشر "اللغة" بين عبارتين تخصان "الإسلام"، ومن الجلى أن واضعى الدستور الدائم (1971) وقعوا فى هذه الركاكة إذْ وجدوا فى دستور 1923 ودستور 1954 نصًّا على الإسلام واللغة فى نفس المادة الدستورية فأضافوا إليه نصا إسلاميا جديدا دون تقديم وتأخير كما كان ينبغى!]. كما جاء ذكر الإسلام فى سياق النص على عضوية "رجال الفقه الإسلامى" فى تشكيل "المحكمة العليا الدستورية" بالإضافة إلى انتخاب القضاء العالى العادى والإدارى و"الشرعى" لثلاثة من القضاة التسعة الذين تتألف منهم المحكمة المذكورة (مادة 187)، ولم يتكرر مثل هذا النص فى الدستور المصرى بعد ذلك. على أن المادة 11 من كل من الدستور الدائم (1971) وتعديله فى عام 2007 نص على ما يلى: "تكفل الدولة التوفيق بين واجبات المرأة نحو الأسرة وعملها فى المجتمع، ومساواتها بالرجل فى ميادين الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، دون إخلال بأحكام الشريعة الإسلامية".

2:

كذلك تورد دساتير مصر ذكر "الدين" غير مقترن بالإسلام فينص دستور 1923 على ما يلى: "المصريون لدى القانون سواء. وهم متساوون فى التمتع بالحقوق المدنية والسياسية وفيما عليهم من الواجبات والتكاليف العامة لا تمييز بينهم فى ذلك بسبب الأصل أو اللغة أو الدين" (مادة 3). وينص دستور 1954 على ما يلى: "المصريون لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم فى ذلك بسبب الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة أو الآراء السياسية أو الاجتماعية" (مادة 3)، مؤكدا مبدأ المساواة بمزيد من القوة. ويعود دستور 1971 وتعديله فى 2007 إلى صيغة دستور 1923 تقريبا فى هذا المعنى فينصان على ما يلى: "المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم فى ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة" (مادة 40). ويرد "الدين" فى سياق اعتباره قوام الأسرة بصيغة: "الأسرة أساس المجتمع وقوامها الدين والأخلاق والوطنية" (مادة 48 من دستور 1954، ومادة 9 من كل من دستور 1971 وتعديله). وينفرد دستور 1971 وتعديله بالتأكيد على "مراعاة المستوى الرفيع للتربية الدينية" (مادة 12 من كل منهما)، كما ينفردان بالتأكيد على أن "التربية الدينية مادة أساسية فى مناهج التعليم العام" (المادة 19 من كل منهما). كما أنهما ينصان على أنه "تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية" (مادة 46 من كل منهما). وتنفرد المادة 5 من تعديل 2007 للدستور الدائم بالنص التالى: "ولا تجوز مباشرة أى نشاط سياسى أو قيام أحزاب سياسية على أى مرجعية أو أساس دينى‏،‏ أو بناء على التفرقة بسبب الجنس أو الأصل" ( فى المادة 5 وهو مضاف إلى مادة 5 من الدستور الدائم).

3:

وإذا كانت الجمهورية الديمقراطية هى الخيار الأفضل لمصر فإنها ينبغى أن تكون جمهورية پرلمانية وليست رئاسية. وتقوم الجمهورية الپرلمانية على دستور ديمقراطى حقا وعلى تعددية حقيقية. ولا يكفى لكى تكون الجمهورية پرلمانية أن يوجد پرلمان بلا أحزاب أو بأحزاب ديكورية، مثل مجالس الأمة والشعب والشورى ضمن نظام الحزب الواحد بمعنى الحزب الواحد الوحيد، أو الحزب الواحد المموَّه بأحزاب متعاونة، فى صورة الاتحاد القومى أو الاتحاد الاشتراكى أو الحزب الوطنى الديمقراطى، هذه الأحزاب التى تنتمى إلى نظام الحزب الواحد، ووإنْ كان الأخيران (الاتحاد الاشتراكى فى مرحلته الأخيرة والحزب الوطنى إلى الآن) قد تجمَّلا بمنابر أو أحزاب متعاونة، كما شهد تاريخنا القريب فى عهود عبد الناصر والسادات ومبارك. كما ينبغى أن تكون مثل هذه الجمهورية مدنية لا عسكرية، وكذلك أن تكون جمهورية علمانية وليس جمهورية دينية. ولا تعنى العلمانية بحال من الأحوال الزندقة أو الإلحاد أو معاداة الأديان بل تعنى على وجه الحصر فى إطار مثل هذا التنظيم الدستورى العام لدولة ما الفصل بين الدين والدولة أو بين الدين والسياسة. ويوجد تناقض حقيقى بين المادة الأولى فى الدستور التى تنص على قيام الدولة "على أساس المواطنة" والمادة الثانية التى تنص على أن "الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع" والمادة الثالثة التى تنص على أن الشعب هو "مصدر السلطات". فكيف تتسق "المواطنة" مع جعل الإسلام "دين الدولة"؟ وكيف يتسق اعتبار أن الشعب هو مصدر السلطات مع اعتبار "مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع"؟ والحقيقة أن الحديث عن دين باعتباره دينًا للدولة لا يعنى إعلاءً لشأنه بل يعنى إدانة مباشرة له. فالدين فى جانب منه حامل للفضائل والمثل العليا على حين أن الدولة أداة للطغيان والاستغلال طوال التاريخ. كذلك فإن صيغة "دولة الدين" بمعنى الدولة التى تطمح إلى أن تقوم وفقا لمقتضيات تلك الفضائل والمثل العليا لا تنقذ الجمع بين الدين والدولة من نفس التناقض الصارخ إذْ لا تصلح الدولة أداة لفضائل الأديان أو الفلسفات أو الوثنيات. والحقيقة أن الصيغتين تعنيان معنى واحدا إذا فهمنا "دين الدولة" ليس بمعنى "دين السلطان" أو "دين الملوك" بل بمعنى الدين الذى تلتزم به الدولة. والواقع التاريخى هو أن كل طموح لإقامة دولة الدين فى جميع الثقافات طوال التاريخ تمخضت عن توظيف الدين ورجاله فى خدمة الدولة والطبقة الحاكمة والظلم والاستغلال. وينبغى أن يكون واضحا أن صيغة "دين الدولة" أو صيغة "دولة الدين" مرفوضة حتى فى بلد يعتنق "كل" مواطنيه دينا واحدا وليس فقط فى بلد توجد فيه ديانات متعددة. ذلك أن الحكم بالقانون الإلهى أو الشريعة الدينية، أىّ شريعة دينية، ينطوى على مغالطتين كبيرتين: تتمثل المغالطة الأولى فى أن القانون الإلهى أو المقدَّس، سواء بتقديس السياسة أو تسييس المقدَّس، لا يضيفان سوى تعقيد - لا تفرضه أىّ ضرورة حقيقية - على ممارسة سياسية واقتصادية واجتماعية معيارها الحاسم أو الوحيد معيار اجتماعى-اقتصادى (إقطاعى أو رأسمالى أو اشتراكى؛ إلخ.) والمصالح المرتبطة به بعيدا عن المعايير القانونية-الدينية. وتتمثل المغالطة الثانية فى أن البشر هم الذين يحكمون باسم القانون الإلهى أو المقدَّس أو الشريعة، محكومين بالمعيار الاجتماعى-الاقتصادى الذى لا فكاك منه ولكنْ مسلَّحين بالطابع المقدَّس الذى يضفونه على ممارساتهم وقراراتهم البشرية بصورة مطلقة وبهذا يضيفون إلى نظامهم جبروتا مستمَدًّا من المقدَّس لا يملكه أىّ حكم بشرىّ باسم البشر والإنسان. ولا يعنى هذا أن المعيار الاجتماعى-الاقتصادى "البشرى" مفصول بسور صينى عظيم عن كل ما ينتمى إلى الأخلاق أو الفضائل أو اليوتوپيات غير أنه يحتفظ لها بمكانة ثانوية أو خيرية محدودة إلا إذا كانت الدولة قد زالت فى مجتمع بلا طبقات صارت الفضائل فيه مندمجة تماما فى المبدأ أو المعيار الذى يقوم عليه المجتمع ذاته بحكم طبيعته ذاتها.

4:

وتترتب على صيغة أن "الإسلام دين الدولة" صيغة "ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع" (مادة 2 من دستور السادات وتعديلات مبارك)، والصيغتان كل لا يتجزأ، كما يقال. ومن الغريب أن معارضى صيغة "المصدر الرئيسى للتشريع" يتغاضون فى أكثر الأحيان عن صيغة "دين الدولة" التى تعنى فى هذا السياق أن الإسلام هو الدين الذى تعتنقه الدولة وتلتزم به فمن المنطقى تماما إذن أن تلتزم هذه الدولة بأن تكون مبادئ شريعة هذا الدين أىْ "مبادئ الشريعة الإسلامية" هى "المصدر الرئيسى للتشريع" (أو حتى المصدر الوحيد أو المطلق!). كما يترتب على هاتين الصيغتين المترابطتين موقف الدستور المصرى(مادة 11 من دستور السادات وتعديلات مبارك) من المرأة حيث "تكفل الدولة التوفيق بين" واجباتها نحو أسرتها وعملها فى المجتمع" وكذلك من حيث مساواتها السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية بالرجل "دون إخلال بأحكام الشريعة الإسلامية". وبهذا تصير الشريعة الإسلامية المعيار الدينى للحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والشخصية وغيرها بما فى ذلك دور المرأة فى البيت والمجتمع وكذلك "حدود" مساواتها بالرجل فى كل ميادين الحياة. وهكذا يجرى الزعم بأن تنظيم مختلف نواحى الحياة الخاصة والعامة سيكون على أساس معيار الدين أو الإسلام أو الشريعة، بعيدا عن المعيار الفعلى الوحيد الذى سوف يسود بحكم الضرورة الاجتماعية-الاقتصادية فى ظل مثل هذا الدستور مهما كانت الطبقة أو الفئة أو النخبة التى سوف تحكم على أساسه، فلا تضيف هذه المادة الدستورية بالتالى سوى إضفاء طابع سماوى على نظام أرضى يتجبر أكثر بهذا الطابع محمِّلا الدين أوزاره، تماما كما أثبت التاريخ فى كل مكان وكما أثبت الحكم على أساس هذه الدساتير وموادها الدينية أو الإسلامية أو المقدسة فى ظل العهود والأنظمة والحكومات التى تعاقبت على مصر منذ دستور 1923! أما نص دستور 1954 على عضوية "رجال الفقه الإسلامى" فى "المحكمة العليا الدستورية"، بالإضافة إلى مشاركة القضاء "الشرعى" فى انتخاب ثلاثة من القضاة التسعة الذين تتألف منهم المحكمة المذكورة (مادة 187)، فيكفى – وحمدًا لله - أن مثل هذا النص لم يتكرر فى الدستور المصرى بعد ذلك.

5:

أما ذكر "الدين" غير مقترن بالإسلام فى الدساتير المصرية فيأتى فى سياق مساواتىّ إيجابى أحيانا: المساواة وعدم التمييز بين المواطنين على أساس "الدين" و"العقيدة" بين أشياء أخرى مع تذبذات فى مجالات عدم التمييز حيث لم يذكر دستور 1923 "العقيدة" وانفرد دستور 1954 بإضافة "الآراء السياسية أو الاجتماعية" إلى هذه المجالات. على أن الممارسات الفعلية ومبادئ دعاة تطبيق الشريعة تتفق على استبعاد غير المسلم والمرأة من مناصب بعينها أهمها رئاسة الدولة، وهو ما يعنى إخراج المساواة وعدم التمييز من الباب وإعادتهما من الشباك (أو على الأصح من باب آخر أوسع كثيرا)! ويضاف إلى السياق الإيجابى أيضا أنْ "تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية" (مادة 46 من كل من دستورىْ السادات ومبارك). غير أن الدين يأتى أيضا فى سياقات أخرى باعتباره ضمن أشياء أخرى "قوام" الأسرة (دساتير ما بعد حركة 1952)، وتأكيد دستور 1971 وتعديله على "مراعاة المستوى الرفيع للتربية الدينية" (مادة 12 من كل منهما)، وكذلك على أن "التربية الدينية مادة أساسية فى مناهج التعليم العام" (المادة 19 من كل منهما)، وهما تأكيدان لا يتفقان مع مبدأ فصل الدين عن الدولة فالتربية الدينية ليست مهمة الدولة بل مهمة المؤسسات الدينية التى تقوم علاقاتها مع الدولة على الانفصال والاستقلال المتبادل، وينطبق نفس الشيء على دور التربية الدينية فى التعليم العام حيث ينبغى أن تقوم المؤسسات الدينية بهذا الدور بعيدا عن الدولة.

6:

وتنفرد المادة 5 من تعديل 2007 للدستور الدائم (وهى مضافة إلى مادة 5 من ذلك الدستور) بمجموعة من القيود المتمايزة المرتبطة بالدين وأمور أخرى حيث تنص على أنه "لا تجوز مباشرة أى نشاط سياسى أو قيام أحزاب سياسية على أى مرجعية أو أساس دينى‏،‏ أو بناء على التفرقة بسبب الجنس أو الأصل". ويعنى هذا أن الحظر هنا يشمل أىّ "نشاط سياسى" وأىّ "أحزاب سياسية" للنساء فقط أو للرجال فقط وهذا مبدأ فى غاية الغرابة ويعنى مثلا ضمن ما يعنى حظر تظاهر نسائى فقط أو رجالىّ فقط مثلا باعتباره نشاطا سياسيا يقوم "على التفرقة بسبب الجنس". ويشمل الحظر أن يكون ذلك بسبب الاختلاف فى الأصل (تُرَى ما المقصود بالأصل هنا، وهل هو الأصل العائلى أم العِرْقى أم الجغرافى؟!). ويأتى الحظر قبل كل شيء على أىّ نشاط سياسى أو حزب سياسى "على أى مرجعية أو أساس دينى"، (والمقصود بالطبع جماعة الإخوان المسلمين). وهذه مشكلة معقدة بالفعل، ولأسباب عديدة: أولا من حيث المبدأ حيث يناضل الحزب السياسى-الدينى فى سبيل إقامة "دين الدولة" أو "دولة الدين"، وثانيا لأن قيام أحزاب سياسية على أساس دينى أو مرجعية دينية بصورة صريحة أو مموَّهة، فى مجتمع ثنائى الدين، من شأنه تأجيج الطائفية على خلفية تنامى روح الطائفية والتمييز على أساس الدين بفعل فاعل يتمثل فى دستور تمييزى وممارسات اضطهادية وتخلف حضارى وثقافى مريع ومروِّع، وثالثا لأن غياب الحريات الديمقراطية فى العهود التالية لحركة 1952 خلق حالة تتميز بتحجر أىِّ حركة دينية أو أىُّ حزب سياسى على مجموعة من التصورات والتوجهات والأيديولوچيات السياسية الأصولية التى قد تتغنى بالديمقراطية فى فترة ما قبل الوصول إلى سلطة الدولة رغم الاستعداد المتواصل للعصف بها عند الاستيلاء عليها، ورابعا لأن جماعة الإخوان المسلمين كانت المستفيد شبه الوحيد من هامش الديمقراطية فى عهدىْ السادات ومبارك من خلال مناورات وصفقات بحكم تزايد قوتها، ولأن أىْ انتخابات نزيهة يمكن أن تأتى إلى السلطة بهذه الجماعة منفردة أو ضمن تحالف أو ائتلاف بقيادتها، مما يشكل خطرا على أىّ تطور ديمقراطى محتمل للبلاد. وقد أثبتت الجماعة قوتها السياسية أثناء ثورة 25 يناير 2011 بتقويتها للثورة وزيادة قوتها من خلال دورها فيها رغم ابتعادها عن المشاركة فيها فى أيامها الأولى، وهرولتها إلى التفاوض مع نظام مبارك بعد سقوط رأسه واستعدادها لعقد صفقات معه، لتعمل على ركوب موجتها وسرقتها بحكم قوتها الأصلية والمستجدة مع أنها وقفت عاجزة قبل الثورة إزاء تزوير الانتخابات وإزاء تعرُّضها للاعتقالات وحملات التشويه والافتراء وغير ذلك.

7:

ولعلنا نستطرد هنا قليلا لنقف على بعض خصائص الأيديولوچيات الدينية السياسية. وللأصوليات ومنها الأصولية الإسلامية أوهامها الواسعة. وإذا كان الإسلام هو الحل، فإن هذه الأصولية تتطلع أيضا إلى الثورة التى هى أساس هذا الحل، لأنها الطريق إلى سلطة الدولة. ولكن هل تستطيع الأيديولوچيا السياسية الإسلامية أنْ تقفز فوق الأوضاع الاجتماعية-الاقتصادية التاريخية فى سبيل إحداث ثورتها. وماذا عسى أنْ تكون الثورة الإسلامية؟ هل هى ثورة تغيِّر ضمير الإنسان المسلم بفضل الدعوة الدينية فتبقى فى الإطار الدينىّ الدعوىّ أم هى ثورة اجتماعية تتمثل أسلحتها المادية فى الحركة النضالية للطبقات العمالية والشعبية، متى توفرت الشروط الموضوعية والذاتية الضرورية لاندلاعها وانتصارها؟ وإذا كانت الأيديولوچيا السياسية الإسلامية تصلح كنظرية مرشدة لثورة سياسية، كما كان الحال فى ثورة الإمام الخمينى فى إيران منذ أكثر من ثلاثة عقود، فهل تصلح أيضا كنظرية مرشدة لثورة اجتماعية شاملة وليس لمجرد ثورة سياسية ضمن نفس النظام الاجتماعىّ الواحد فى نهاية المطاف (كما هو حال ثورة 25 يناير المصرية التى يصعب الآن أىّ تنبؤ بما إذا كانت ستقود إلى ثورة اجتماعية بالمعنى الصحيح)؟ وهنا يظهر تناقض كبير بين الدين والسياسة. فالأديان فى جانب مهم من جوانبها بطبيعة الحال حامل للفضائل المنشودة فى حياة البشر، وهى بطبيعة الحال الفضائل التى بلورتها التجربة البشرية فى مسيرتها الطويلة. ومن هنا فإنه لا يمكن إنكار وجود دور لها فى الحياة الأخلاقية للبشر مع الاعتراف بأن البشر يظلون دائما قاصرين عن تحقيق تلك الفضائل فى سلوكهم فى الحياة. ولكنْ لماذا لا يتطابق هؤلاء البشر مع الفضائل التى تنطوى عليها تجربتهم البشرية وأديانهم ووثنياتهم؟ لسبب بسيط: لأن الأخلاق الفعلية فى الحياة رغم تأثرها بالفضائل الدينية (وهى نفس الفضائل البشرية التى انتقلت إلى الوثنيات والأديان والقوانين الوضعية) تنبع من منابع أخرى للسلوك: تتناقض الأخلاق الفعلية دائما مع فضائل الأخلاق المثالية لأنها تنبع من حياة البشر، من الحياة الاجتماعية الاقتصادية الثقافية التى تنعكس فيها مستويات التقدم التقنى والاجتماعىّ والفكرى للبشر، وتنعكس فيها علاقات الاستعباد والاستغلال والقهر بين البشر، حيث يتوزع ضمير البشر بين القمع المادى والأيديولوچىّ والتمرد والمقاومة أو الاستكانة والخضوع. وقد أثبت تاريخ كل الأديان وكل الوثنيات وكل الحياة البشرية بكل الفضائل التى تدعو إليها أن الأخلاق الفعلية بخيرها وشرها لم تتطابق مطلقا مع المثل العليا لتلك الفضائل والأخلاق الدينية والوضعية، وكان الانتصار دائما للأخلاق الفعلية التى لا شك فى أنها تنطوى على مبادئ وفضائل لا تقوم بدونها حياة اجتماعية للبشر، وهذه المبادئ الأخلاقية البشرية ذاتها إنما هى بدورها مثل عليا لا يمكن أنْ تتطابق معها الأخلاق الفعلية للبشر. وإذا كانت الأديان (وكذلك الفلسفات والقوانين) تقدم لنا، فى جانب من جوانبها، فضائل كبرى فى السلوك فى كل مناحى حياتنا، فى معاملاتنا الحياتية الأخلاقية والاقتصادية، فإن السياسة شيء آخر. السياسة هى علاقات الاستغلال والقهر المتواصلة كما تسجلها حوليات التاريخ البشرى بمداد من الدم والحديد والنار. فكيف يمكن أنْ نتصور أىّ توافق بين هذين النقيضيْن: الدين من بعض جوانبه دعوة إلى الفضائل ومكارم الأخلاق والسياسة كعلاقات استغلال وقهر بين الطبقات؟! وإذا كانت السياسة هى العلاقات بين الطبقات الاجتماعية فإن الدولة هى الأداة التى تدير بها طبقة من هذه الطبقات تلك العلاقات، وهذه الأداة بحكم طبيعتها تحمى مصالح الطبقة الحاكمة وهى بطبيعتها مصالح استغلالية وقمعية وبالتالى فإن الدولة تقوم على إدارة العلاقات بين الطبقات لحماية الاستغلال وتكون أداتها فى ذلك القمع المنهجىّ، من خلال الأجهزة الإدارية والقضائية والپوليسية والتمثيلية والأيديولوچية للدولة. والحقيقة أن استيلاء الأيديولوچيا السياسية الدينية على الدولة فى بلد من البلدان إنما يعنى أنْ تحلّ طبيعة الدولة محل طبيعة الدين، أىْ أنْ تسلك الأيديولوچيا الدينية كدولة فى يد الطبقة الحاكمة، تحمى مصالحها وتقمع معارضيها الذين تعتبرهم أعداءها. ذلك أن ما يستولى على الدولة ليس الدين فى سماواته بل البشر على الأرض، المنتمون إلى طبقات ومصالح، والطامحون لإدارة الدولة لتحقيق مصالح طبقية رغم المشاعر والرغبات والتصورات التى تملأ عقول وقلوب قواعد الحركات التى تتبنَّى هذه الأيديولوچيا الدينية السياسية والتى تتطلع إلى إقامة حياة عادلة على الأرض. والحقيقة، كما أثبت تاريخ الدولة الإسلامية فى أزهى عصورها، عصور الحضارة العربية الإسلامية، وكما يثبت تاريخ الخلافة العثمانية، وكذلك تاريخ إيران فى عالمنا المعاصر، هى أن الأيديولوچيا السياسية الإسلامية، السنية أو الشيعية، يحوّلها الواقع الاجتماعىّ-الاقتصادىّ إلى عامل من عوامله، أىْ إلى التعبير عن سيطرة وتسلط طبقة حاكمة على بقية الطبقات، وعلى البلدان المجاورة من خلال الفتوحات. ولم نر أىّ نتيجة أخرى تتمثل فى تحرير حياة الإنسان المسلم الذى تواصلت معاناته وتواصل شقاؤه فى سياق علاقات القهر والاستغلال.

8:

وينبغى أن نستنتج مما سبق ضرورة تنقية الدستور عند كتابة دستور جديد ديمقراطى حقا، بعد إلغاء دستور 1971 الدائم، بكل تعديلاته السابقة والجارية الآن، من المواد التى تخلط بين الدين والإسلام من جانب والدولة والسياسة من جانب آخر. وعلى هذا الأساس ينبغى حذف النص على الدين وعلى الإسلام فى المادة الثانية فى الدستور الحالى، من كل دستور لاحق مع حذف كل تطبيقاتها المتمثلة فى مواد الدستور الأخرى، على أن تحل محل هذه المواد مواد دستورية أخرى تنص على حرية العقيدة الدينية وغير الدينية ضمن الحريات والحقوق الديمقراطية الأخرى، وكفالة ممارستها جميعا، مع إلغاء كافة القوانين المقيدة للحريات.

23 فبراير 2011

3 التعليقات:

Entrümpelung يقول...

اللهم ولى امورنا خيرنا ولا تولى امورنا شرارنا

umzug يقول...

:)) ... شكرا لكم .. دائما موفقين

umzug
umzug wien
umzug wien

dog treatments يقول...

راائع